حرب
المفاهيم ... من (المستبد العادل) إلى (الفوضى الخلاقة)!
منذ أن بدأ الإنسان يتحرر من قيود الحس
والمادة وينتقل لمرحلة الوعي والإدراك العقلي ،
نشأت المفاهيم كتعبير علمي راقٍ عن هذه المرحلة .
فالمفهوم هو مجموع الخصائص الكلية المشتركة
المعبرة عن حقيقة الشيء والتي تتجاوز صفاته
الظاهرية والثانوية المتغيرة إلى صفاته الجوهرية والثابتة التي يشترك فيها جميع
أفراد النوع .
وكان لتحديد المفاهيم وتطبيقها على معطيات
الواقع أثر كبير في نشأة العلوم الرياضية
والطبيعية والإنسانية وتطورها لتصل إلى ما وصلت إليه حتى يومنا هذا.
وبقدر ما كانت المفاهيم سبباً في تطور العلم
فإنها كانت في أحيان عديدة سبباً في تضليل
المجتمعات وتفككها وخراب الدول واندثارها ، خاصة إذا تلقاها الناس بالقبول دون
تدقيق في تماسكها المنطقي وصدقها الواقعي ، أو إذا كانت مفاهيم مجردة خاوية من أي
مضمون يربطها بالواقع المعاش ، فتصبح مجرد شعارات جوفاء تُلهي الناس عن مشاكلهم
الحقيقية ، والأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخنا القريب والمعاصر .
ولاشك أن عالم السياسة هو الأكثر استخداماً
للمصطلحات التي تشكل غطاءً لنوايا مبيتة أو
تبريراً لأفعال سيئة ، فقد أطلقت الدول الأوروبية على الإمبراطورية العثمانية اسم
(الرجل المريض) ، فورثتها وهي حية وتقاسمت ممتلكاتها في اتفاقية سايكس بيكو! ..
وأشاع هتلر مقولة (المجال الحيوي) ليبرر احتلاله لبولونيا وتشيكوسلفاكيا ثم روسيا
وغيرها. واستغلت الحركة الصهيونية أساطير تلمودية عفا عليها الزمن ، فبعثتها من
بين القبور وسوّقتها لأتباعها في أنحاء العالم ومناصريها في الغرب، مثل (أرض
الميعاد) و(الوطن القومي) ، وزادت عليها أن فلسطين (أرض بلا شعب) .
وأكثر مفهوم روّج له الغرب من الناحية
النظرية هو الديمقراطية ولكنه عملياً كان يدعم
العديد من النظم الدكتاتورية مادامت تنفذ مصالحه ، وهو أمر درجت عليه الدول
الأوروبية منذ القرن التاسع عشر ، حيث كانت تسعى لتعطيل محاولات الإصلاح في الدولة
العثمانية وغيرها لإفساح المجال أمام استمرار الاستبداد .
وقد شكا من ذلك رائد الإصلاح في تونس
الحديثة خير الدين باشا الذي وصل إلى رتبة الصدر
الأعظم في الدولة العثمانية وعزله السلطان عبد الحميد بعد مدة وجيزة (أقوم
المسالك، ص205).
ولم تختلف سياسات اللاحقين عن السابقين
كثيراً، فكم من دكتاتوريات قد دُعمت من قبل
أميركا ( شاه إيران ، ماركوس ، سوموزا ، بينوشيه ) ، وكم من حكومات ديمقراطية قد
سُحقت بدموية ( سلفادور ألليندي ) أو حوصرت لإسقاطها مثل حكومة حماس .
أما ديمقراطية (الفوضى الخلاقة) التي بشر
بها المحافظون الجدد ، فهي تحمل تناقضها في
نفسها كما هو حال مصطلح المستبد العادل ، لأن الخلاقية تعني الابتكار والإبداع
وهما أمران إيجابيان بينما الفوضى تعني السلب والهدم والتفكيك والتحلل على مختلف
الأصعدة ، فكيف يجتمعان؟
لذلك حينما انتشرت الفوضى في العراق بعد
الاحتلال وسرت عدواها في مختلف مفاصل الدولة
والمجتمع
صار من الصعب بناء مؤسسات ديمقراطية على أسس متينة لذلك فهي معرضة للانهيار في كل
لحظة
لأن أساسها هش ، فالفوضى هي الفوضى ولا يمكن أن تكون خلاقة !
ولو بقيت المفاهيم حبيسة الكتب ومجالاً لنقاش أهل الفكر والنظر لهان الأمر ، ولكن
الخطر كل الخطر إذا تلقفها رجال السياسة وأصحاب المصالح ليوظفوها لمطامع خاصة ،
فتنحرف عن مسارها الصحيح والذي لابد أن يساعد في فهم الواقع وتنظيمه ولكنها بدلاً
من ذلك تقوم بتفجيره وتحطيمه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق